Booker Prize Winner - 2009
Dr.Youssef Ziedan
د/ يوسف زيدان
أ.د. يـــوسف زيــدان
موانع التقدم: تشويش الأذهان بمعيار الإيمان
( اضغط هنا لتنزيل ملف المقالة ( 22/8/2017
عندما جاء اليابانيون إلى الإسكندرية لبناء مصنع «الدخيلة» للحديد والصلب، وهو المصنع الكبير الشهير الملحق به «كومباوند» سكنى أنيق فاخر لسكنى العاملين، وابتلعه علانية بعد تشغيله رجل الأعمال المعروف. جمعتنى أيامها جلسة غداء مع بعض المهندسين اليابانيين «والغداء عندهم تطول جلسته، ويتخللها نقاش وتدخين واحتساء للشاى!» سألت أحدهم عن اعتقاده الدينى، فمط شفتيه وز كتفيه ثم هز رأسه نافياً. لم أفهمه، فأعدت عليه السؤال مبسطاً، واستفسرت منه عن إيمانه بيوم البعث والقيامة! فاندهش من سؤالى ونفى علمه بالموضوع، كنت آنذاك فى العشرينيات من عمرى، وبعد سنوات استعدت هذه الذكرى فى جلسة تأمل، فوجدتنى كنت سخيفاً مع الرجل وفضولياً بشكل غير لائق.. ولما زرت كوريا الجنوبية قبل عشر سنوات، وأدهشنى التقدم الذى وصلت إليه البلاد، سألت مرافقى الكورى عن الآثار الموجودة فى عاصمتهم «سول» أو حولها، لأزورها. فقال: لا شىء! فقد تحطمت كل المبانى القائمة على الأرض أثناء الحرب الأهلية الكورية التى وقعت سنة 1950 واستمرت ثلاثة أعوام، أودت خلالها بحياة خمسة ملايين كورى دفاعاً عن القائدين اللذين يقولان: هيا
وينتظران الغنائم فى خيمتين
حريرتين، من الجهتين
يموت الجنود، مراراً
ولا يعلمون إلى الآن
من كان، منتصراً.. «محمود درويش»
سألت مرافقى الكورى عن المعابد القديمة، فقال إن كل الأبنية تحطمت! فاستفسرت منه عن الديانة الأوسع انتشاراً؟، فقال باستهانة: لا يوجد إحصاء دقيق، هناك بوذيون وبعض المسيحيين وغير المتدينين! ثم أردف: هذا الموضوع ليس مهماً هنا.
يا للهول، التدين ليس مهماً! قال: البعض يهتم، لكن الأكثرية لهم اهتمامات أخرى.. كيف، ومثل ماذا؟ قال: أهم شىء هنا، العناية بالجسم «فى كل بناية سكنية كبيرة: ناد صحى».. ورفاهية المعيشة والقلق من كوريا الشمالية.. وحياة الآخرة؟ نظر إلىَّ مندهشاً ولم يجب بشىء.
***
فإذا انتقلنا من الجغرافيا إلى التاريخ، وجدنا الفترات التى شهدت تطوراً حضارياً، تخلو من المماحكات الدينية ومحاسبة الناس لبعضهم البعض بمعيار الإيمان العقائدى.. فى الإسكندرية القديمة «البطلمية» كانت المدينة هى عاصمة الدنيا، ولم يكن العلماء يحظون بالتقدير فى أى مكان فى العالم القديم، إلا إذا كان الواحد منهم قد درس بالإسكندرية. وفى ذاك الزمان، كانت الإسكندرية «عاصمة مصر» تعيش أبهى عصور التسامح الدينى والتعايش بين المتصوفة وجماعة الفيثاغوريين والمؤمنين بآلهة كثيرة مختلفة: مثرا، سيرابيس، إيزيس، دينسيوس، ديمتر، بوسيدون، الأم العظيمة، يهوه... إلخ. وكان يتجاوز فى المدينة أتباع «أبيقور» القائل بالمبادئ الأربعة المعروفة: لا يصح أن نخاف من الآلهة، الموتى لا يشعرون بشىء، الوصول إلى الخير ممكن لكل إنسان، احتمال الشر ممكن لكل إنسان.. مع أتباع المسيحية فى صورتها الأولى المستقاة من «إنجيل المصريين» وغيره من الأناجيل «البشارات» التى تم حظرها فيما بعد وملاحقة المحتفظين بنسخ منها.
ثم تغير الحال فى أواخر القرن الرابع الميلادى وأوائل القرن التالى عليه، خصوصاً بعدما قام الأسقف «ثيؤفيلوس» بهدم معبد السرابيون ومكتبته الهائلة، سنة 391 ميلادية. ثم قام ابن أخته الأسقف «كيرلس» الملقب بعمود الدين، بوضع بيان للإيمان كانوا يسمونه: الأناثيما «اللعنات» بحيث يحكم بالكفر على أى شخص لا يوافق عليه، بل تصب عليه اللعنة لعدم إيمانه بمعيار الإيمان «الأناثيما».. وفى أيامه المدلهمة قتلت «هيباتيا»، أهم وأجمل علماء الزمن القديم، سنة 412 ميلادية، وبقى العالم بعد ذلك خمسة قرون فى ظلام معرفى تام، وتدهور حضارى، وتعصب مفرط بالإيمان الأرثوذكسى «القديم! السلفى».
وفى التاريخ المسيحى أيضاً، سيطرت قوانين الإيمان المذهبى «الكاثوليكى» على أوروبا، خلال القرون المسماة اليوم: العصور المظلمة، فازدهرت قوانين الإيمان، وسطوة الكنيسة، ومحاكم التفتيش، والتخلف الحضارى المريع، والحروب الهزلية المسماة الصليبية، وصكوك الغفران الوهمية.. وامتد الظلام حتى أشرف «عصر العقل»، عصر ديكارت الفيلسوف، وفلاسفة العقد الاجتماعى، والعلماء الذين اجتهدوا فى تطوير المعرفة.
وفى تاريخ الإسلام، كانت الفترة الذهبية الممتدة من زمن الخليفة المأمون وبيت الحكمة فى بغداد، إلى نهايات القرن الخامس الهجرى، حيث الحكام الذين لم يلعبوا بالمعتقد الإيمانى فى الميدان السياسى، أو فعلوا ذلك برفق.. فكان من عطايا زمن التسامح المذهبى هذا، نجوم مسلمة لمعت فى سماء الإنسانية وشموس معرفية من أمثال: أبوبكر الرازى، ابن الهيثم، البيرونى، ابن سينا.. وغير هؤلاء من نوابغ العلماء كثيرون، يخرج عددهم عن الحصر وتتنوع إسهاماتهم العلمية على الطب والطبيعيات والمنطق والرياضيات والفلك، بصرف النظر عن مذاهبهم العقائدية وحالتهم الإيمانية وتوجهاتهم الدينية.. ثم انطوى ذلك الزمان المشرق، مع علو نبرة التعصب المذهبى بين السنة والشيعة، ولعب بهذا المعيار مغامرون وطلاب سلطة وسفاحون من أمثال محمود الغزنوى وصلاح الدين الأيوبى «كلاهما سار فى نفس المسار» وأقاموا دولاً على جثث عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف، بدعوى نصرة السنة فى وجه الشيعة! فقاموا بأحقر الأعمال: النهب، الغدر، تدمير المكتبات، مطاردة العلماء وسجنهم وقتلهم، طمس التراث القديم.. على اعتبار أن كل ذلك يهون فى سبيل إعلاء معيار الإيمان، ورفع راية السنة! فماذا كانت النتيجة؟ مرة أخرى، خفت صوت العلم والمعرفة وبدأ التدهور الحضارى وانهارت قوة الأمة وسقطت هذه الدول بعد جيل واحد من مؤسسيها السفاحين، فاجتاح السلاجقة «الأتراك» دولة الغزنوى التى قامت على الباطل المستتر خلف الإيمان، وفتك المماليك «الأتراك» بالأيوبيين الذى بهرجوا على الناس بدعوى نصرة السنة.. ثم نشب الخلاف بين السنة «الأحناف» والسنة «الشافعية» وتقاتلوا فيما بينهم.
***
وبعيداً عن الجغرافيا والتاريخ، نرى واقعنا المعاصر البائس شاهداً على تدمير الحضارة والإنسان والمعرفة، بدعوى رفع معيار «الإيمان» ورايته الخفاقة التى يزعمون.. ونجد الخلاف العتيد بين المسلمين والمسلمين، السنة والشيعة، وعمق العداء بين السعودية وإيران على اعتبار أن كليهما يزعم أنه يملك المعيار الوحيد للإيمان ويحاسب على أساسه الآخرين «ولا يحاسب نفسه قط، بأى معيار»، ناهيك عن البلايا الواقعة علانية، وعسكرياً، فى اليمن وسوريا وجنوب العراق.
هذا هو الحال «الدولى» التعيس للمسلمين، أما الحال الداخلى الأتعس فى مصر، فهو متنوع ما بين التنازع الواقع، بل المحتدم بين الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية بصدد حق الطلاق! ولا أدرى ما دخل ديانة المحبة بتشريعات الزواج وأحوال الدنيا، مع أن المسيح بشهادة الكنيستين: مملكتى ليست من هذا العالم. وبلغ التعصب المذهبى وادعاء ملكية المعيار الوحيد للإيمان، أن كل كنيسة ترى الكنيسة الأخرى مهرطقة.. ضالة.. ملعونة بمقتضى الأناثيما.
وفى القرى والمحافظات الأكثر تخلفاً والأشد تدهوراً، يثور كل حين عنف عتيد بين فقراء المسلمين وتعساء المسيحيين، لأن هؤلاء فى نظر أولئك لا يؤمنون الإيمان الصحيح. وفى أنحاء البلاد تقع الحوادث الإرهابية بالغة الخسة والحقارة، انطلاقاً من أن معيار الإيمان مختل فى البلاد، وبالتالى فإن أهلها لا يستحقون العيش فى سلام.. هذا طبعاً، قولهم بألسنتهم! أما فى واقع الحال، فكلها وسائل للوصول إلى السلطة بزعم: نصرة دين الله.
وبدلاً من الاهتمام العام بهذا الواقع المزرى الذى يدفعنا نحو المزيد من التدهور الحضارى، ينصرف اهتمامنا جميعاً من الأزهر الشريف إلى سائقى الميكروباصات، إلى القضايا التى تدعم معيار الإيمان: هل المسيحيون مشركون بالله الواحد، هل الحجاب فرض، هل تجوز رضاعة الكبير ليصير من أهل المرضعة، هل يجوز التداوى بشرب ماء الإبل، هل يجب شرعاً قتل الشيعة، هل خرجت «تونس» من دائرة الإسلام بسبب قانون الميراث الأخير الذى تم إقراره هناك، هل يجب أن نغمس الذبابة فى المشروب إذا لمسته لأن فى أحد جناحيها الداء وفى الآخر الدواء، هل يستحب نكاح القاصرات مادامت الأنثى منهن تطيق النكاح حتى لو كانت فى الخامسة من عمرها، هل نعيش فى زمن جاهلى؟.. وطبعاً، لا يمكن تجاوز هذه الأسئلة «الكبرى» والمصيرية، أو التقليل من شأنها، لأنها تنطلق من معيار الإيمان. ولأن الإيمان أهم من كل ماعداه، بدليل قول الشاعر: إذا الإيمان ضاع فلا أمانا، ولا دنيا لمن لم يُحيى دينا.
فماذا عن الدول الأوروبية، يا شاعر!
***
نعود من الجغرافيا والتاريخ والواقع المعاصر التعيس، إلى أصل الإشكال ومعنى «الإيمان» الذى صار معياره هو أحد أهم موانع التقدم وعوائق التحضر.. فنجد تعريفاً للإيمان فى الحديث النبوى الشريف، إذ يقول: الإيمان هو ما وقر فى القلب وصدقه العمل. يعنى بعبارة أخرى: الإيمان سر فى قلب المؤمن. يعنى بعبارة أخيرة: الإيمان مسألة خاصة بالمؤمن الذى لا يمكننا أن نشق صدره لنرى ما فى قلبه.
سيقولون: لماذا تركت النصف الأخير من تعريف الإيمان، المتعلق بالأعمال المصدقة للإيمان؟ نقول: لأن الحساب على الأعمال يكون فى الآخرة لا فى هذه الدنيا، وصاحب الحق فى المحاسبة هو الله سبحانه وليس الأدعياء من الناس الذين يوهمون العامة والجهلاء بأنهم نواب الله فى الأرض، بدليل أنهم يطلقون اللحى مثلما كان يفعل النبى وأصحابه الأخيار.
هل كان أبولهب وأبوجهل يحلقان لحيتيهما، وماذا عن لحية كارل ماركس «لعنه الله بمقتضى قانون الإيمان اليهودى، ومعيار الإيمان المسيحى والإسلامى السنى، والشيعى!».
وسيقول قائل أعقل قليلاً من هؤلاء السابقين: وما المانع فى أن يتحقق معيار الإيمان فى المجتمع، ويتحقق أيضاً التقدم الحضارى؟.. ولهذا القائل نقول: لا يوجد أصلاً معيار للإيمان كى يتحقق وتتحقق معه الحضارة. هناك نصوص عقائدية تزعم أنها الحق الوحيد، ومتعصبون يرفعون من شأنها حتى تصبح عندهم أهم من الدين ذاته. وهناك حقراء من الحكام يلعبون بهذه المعايير الإيمانية المزعومة، ويقتلون الناس ويستولون على السلطة بدعوى أنهم حراس الإيمان ومعياره الصحيح.. وبالتالى، فإن سؤالك أصلاً صيغته خاطئة، وأى إجابة عليه لابد أن تكون مثله خاطئة.
وسيقول آخر بلسان السماجة: لا فائدة مما تقول، فنحن شعب متدين بطبعه والدين عندنا أهم من الدنيا! ومثل هذا الشخص، لا يصح أساساً أن نرد عليه أو نكترث لهذا الكلام الساذج، الكاذب، الذى يقوله.. فالانهماك فى الجدل الأجوف حماقة، ومسايرة الساذجين سذاجة.
والله يتولى الجميع برحمته